ابتسمت أنجلينا بدورها ورقصت فرحاً لفكرة القيام بحفلة في مطرحها لتجميع الأموال. كان ذلك في الليلة التي من المفترض أن نجمع فيها المال من أجل بعثة حقوق الإنسان المتجهة في الأول من شهر مارس إلى السلفادور. البعثة كانت مكونة من 12 فرداً من موظفي الأمم المتحدة والمطالبين بحقوق الإنسان في دولة السلفادور. هدفهم الأساس كان الحرص على أن تكون الانتخابات الرئاسية القادمة نزيهة وعادلة. وبدلاً من التوجه بقضيتنا نحو رجال الأعمال وأولي الأمر ممن يهمهم نزاهة الانتخابات المرتقبة هناك، اقتصرت الدعوة على المعدمين.. المعدمين فقط من أصحابنا وكذلك من أصحاب أصحابنا ومن لا يعرف أين يذهب في ليلة سبت باردة في مدينة سياتل.
توجهنا إلى قليلي الحظ ممن لايريد الاحتفال أو الرقص وإن كان محظوظاً كان له التوجه إلى السرير بصحبة فتاة يتفاجئ بقبحها في الصباح التالي. الأمر أنه في حالة السكر كل النساء يتساوون ويكنّ جميلات بشكل ملفت لنظرك إلى درجة أنك لا تستطيع أن تفضل إحداهن على الأخرى. في أكثر من مرة أتفاجئ بأنني مقبول بشكل رهيب بين الفتيات بعد الساعة الثانية عشر. لست على درجة عالية من الوسامة -إن أردتم الحقيقة- لكن لي مزاياي الحسنة. مثلا أستطيع الركض لمدة ساعة كاملة رغم أنني مدخن، وكذلك بمقدرتي ابتلاع ثلاث بيضات مرة واحدة دون صعوبة تذكر. أما أهم مزاياي فهي معرفتي الكبيرة بالمواشي والتعامل معهم. أحياناً أشعر أنني بهيمة من فرط تفهمي للنعاج والماعز والإبل.
“بيتر روه” عشيق أنجلينا تطوع بأن يكون “الدي جي”! بحق السماء. هذا الولد غريب الأطوار فعلاً. لا يمتلك هاتفاً محمولاً ويحلق ذقنه مرة واحدة كل ثلاثة أشهر. يتنقل بدراجته بين حواري المدينة رغم امتلاكه سيارة. في الوهلة الأولى تعتقد أنه مشرد ومتخلف عقلياً. لكن بعد أن تتعمق في معرفته تكتشف أنه معقد نفسياً بشكل رهيب ومزعج. تعرفت عليه بالخطأ في إحدى الحانات. كان ينتظر صديقاً لم يأتِ وكنت أبحث عن نديم أبدد معه تعب الغربة، ومن وقتها ونحن نقضي ليالي السبت في نفس الحانة. ابتعنا كل شيء، المشروب والبسكويت ورقائق البطاطا. أخذنا ما يكفي لـ قبيلة كاملة. التكلفة لا تكون عالية عندما تعرف من أين تأتي بهذه الأشياء .. أعتقد أن العيش على ما لا يزيد عن ألف ومائتين دولار في الشهر يعلمك أن تقتصد في كل شيء ويدل قدميك على محلات البيع بالجملة.
على مقربة من شارع البرادوي المشهور بالنوادي الليلية والحياة الصاخبة في حي “الكابيتل هيل” حيث يتكاثر الشاذون جنسياً والمصابون بالعاهات البشرية. إنه حي عفن على أية حال، تسكن أنجلينا في بيت مكون من طابقين. البيت لم يكن مكان جميلاً لكنه محترم بمايكفي لاستقبال 30 شخصاً مرة واحدة. بدأنا الاستعدادات باكراً.. أعدنا ترتيب الأثاث وأخفينا الحاجيات التي يمكن أن تسرق أو يحطمها السكارى في إحدى الغرف، وأخبرنا الجميع عن موعد الحفلة. كنت أتطلع أن أخوض نقاشاً مع أحدهم حول السلفادور وتطلعاتنا لمستقبل شعبها الغامض. وإن كنت فعلاً لا أعرف أي شيء عن هذه الدولة ولا عن حقيقة وضعها السياسي لكن ماهمني وأنا العربي الوحيد من المنظمين للحفل بينهم (إلى الآن لا أعرف لماذا كنت بينهم أهتف وأتحرق شوقاً من أجل أن تكون الانتخابات نزيهة وحرة وعادلة) كأنني أخبرهم بأمر العدالة والديمقراطية. ههه.. ليس بحكم التجربة طبعاً لكن من مقام فاقد الشيء أكثر الناس تقديراً له.
كان صوت الموسيقى صاخباً ومزعجاً. في حياتي لم أسمع إزعاجا كهذا أبداً. كان نوع الموسيقى رديئاً بشكل لافت ولولا تدخلات أنجلينا وقدرتها العجيبة على إقناع “بيتر” لتضع بعض الأغاني اللاتينية لكان انتهى بنا المطاف إلى الاقتتال مع بعضنا البعض. كنت وقتها قد تعلمت رقصة “السالسا” وأنتظر بفارغ الصبر أن تأتي أي فرصة لأرقص مع أي فتاة كانت. لا تحسبوا أبداً أننا كرجال لا نرضى إلا بالتحدث والرقص مع الحسناوات فقط. نحن نتحدث مع من هن أقل حسنا وفتنة. هذا طبعاً من أجل الحسناوات بلا شك. المشكلة مع المرأة الجميلة أنها تعرف أنها جميلة وأنك تسعى خلف جمالها وجسدها.
صدقوني إنكم لا تريدون القفز أمام حسناء ثم تتلعثمون بالكلام، هذه المواقف تقتلني. فـ نعم نلتفت لمن هن أقل حسناً من أجل التدرب ومعرفة إمكانياتنا. بعد كل شيء أنت تحتاج إلى القليل من الثقة وإثبات المهارة.
كانت هي في المطبخ مع مجموعة من الضيوف يتحلقون حول طاولة الطعام يتناقشون حول المستقبل السياسي للبلد. كان ظهرها للباب.. فتاة لاتينية قبلتها الشمس وأعطتها لونا برونزياً لا يمكن تجاهله وشعر حريري بلون الذهب ترفعه للأعلى بمشبك أزرق فاتح يتوافق مع لون فستانها. ورقبة طويلة بحبة خال بجانبها الأيسر. كانت ترتدي ثوباً أزرق فاتح اللون، قصير يكشف عن نصف ظهرها مثير بما فيه الكفاية ليوقظ جميع الرغبات. كنت أتأملها من الخلف وأتفحصها بدهشة ودقة متناهية مثلما كنت أتفحص بكار الإبل. كانت بكرة جميلة بحسب كل المعايير البدوية. وكان أكبر خطأ أقدمت عليه أنني لم أنتبه أن الساعة لم تتجاز الحادية عشر. أتيتها وكلي ثقه لا يزعزها شك أن من كانت تنتظره طيلة حياتها ليس إلا أنا. لا أخفيكم أن لدي مخيلة مضروبة. حييتها بشكل غبي. وإلى الآن لا أدري لماذا يجب أن نتبع بعض الطقوس عند مخاطبة النساء. تخاطبها بشكل معين ولا تتطرق إلى بعض الأحاديث معها. هذه سخافة، لا أريد أن أكون ممثلاً ومتظاهراً. أحب أن أكون على طبيعتي. حييتها كما أفعل مع أصحابي الرجال. “هيه مرحبا” فالتفتت بذهول وفجع من أسلوبي. كنت فجاً! التفتت صوبي وأهدتني خيالاً جميلاً في مدى هذه الالتفاتة التي لم تتجاوز أكثر من ثوان، توقف العالم والموسيقى والتقت عيناي بعينيها وكنت على وشك أن أخبرها أنني أحبها وأريد الزواج منها وإنجاب 14 طفلاً يعيشون معنا في مزرعتنا الصغيرة مع كلابنا الثلاثة وماشيتنا المئة. تصورت سنوات عمري القادمة وهي تحلب الماعز وأنا أجلب لهن العلف، تصورت أحداث كثيرة، كل شيء تجلى أمامي بوضوح حينها وبتفاصيل صغيرة. أخبرتكم أنني أملك مخيلة مضروبة! وقتها كان شعوراً مناسباً للحدث لكنني نسيته الآن تماماً.. حمدلله. طلبت منها الرقص ووافقت بدون تردد. ربما لكونها ملّت المكوث برفقة تلك المجموعة. رقصنا على ألحان ثلاث أغنيات متتالية. كنت راقصاً ماهراً حينها وكانت هي شريك رقص ممتاز. أخبرتني أن اسمها “كمبرلي” وهي إحدى أفراد البعثة المتوجهة إلى مسقط رأسها السلفادور. قالت أشياء أخرى لا أتذكرها بالتحديد. وقتها كان كل ما استطعت التفكير به هو شفتاها. هذا موقف محرج، فالمرأة الحسناء لا يشكل حديثها أي أهمية أمام شفتيها وهذا متعارف عليه بين أوساط الرجال. كنتُ أحاول استجماع كل ما أعرفه في العلوم السياسية ومن قراءاتي في الأنظمة السياسية. لم أصل من الارتفاع مايكفي ليكون كل ما أقوله ذكياً ويصبح تركيزي محصوراً على الفتاة وليس القضية. على العكس من ذلك، أثناء الرقص كنتُ متحدثاً بارعاً أدرت الحديث عما لا يهمني فعلاً.
أسوأ شيء يمكن أن تفعله في ليلة صاخبة وأنت في رفقة امرأة التقيت بها للتو هو ألا تستطيع ممارسة الكذب وتخبرها بكل سذاجة أنك من السعودية.
صدقوني هذا فعل قبيح ومستنكر جد ولا يمكن تفاديه إلا بشطارة ودهاء. وإلى هذا اليوم لا أعرف كيف كان بالإمكان تفادي الإجابة على سؤالها “من أين أنت؟”
رأيت في عينيها تشي غيفارا ومعاناته من أجل الثورة على الطيغان والظلم السياسي. كانت تتحسس على وجهها كل الصفعات التي تلقتها النساء في وطني، والألم الذي يقاسيه شعبنا المكبوت. أخرجتني من حالة الانتشاء التي عشتها بين شفتيها وأسقطتني في حوار عقيم وفضول مزعج عن دياري. هذا الأمر قتلني تلك الليلة وأفسد مزاجي أسبوعاً كاملاً. حينها كل ما كان يجعلها جميلة تلاشى، وضمرت شفتيها وأصبحت كالعرجون القديم. حاولت الهرب من أمامها. لم أجد مفراً، هذه الأحاديث تصيبني بالغثيان وتسبب لي ألماً رهيباً في رأسي. كان “بيتر” وقتها يأخذ استراحة من الوقوف وإزعاجنا بموسيقاه الرديئة. ناديت عليه لأعرفه على كمبرلي بداعي التخلص من أسئلتها المزعجة. وهمست في أذنه “إنها معجبة بموسيقاك وتثني عليها كثيراً”.
كان بيتر ينتظر أن يتحدث معها بأي طريقة وكنت أنا بوابة العبور إليها. جلس يتحدث اليها بشغف، ونسي كل ماحوله. تسربت إلى عقله مثل قطرة الندى وهي نسيتني ونسيت أحلامها الثورية بصحراء نجد. حمدت الله كثيراً وقتها ولعنت أطفالي الافتراضيين الـ 14 منها واحداً واحداً.
تحولت الحفلة إلى زريبة حيوانات.. ولم تكن السلفادور وشعبها جزءاً من هذا. فقد تكدس الحضور فوق بعضهم البعض ورائحة أجسادهم الكريهة تعج بالمكان. تصورت نفسي في سن العاشرة مرة أخرى أطوف حول الكعبة وأصطدم في أباط المعتمرين. تلك الأيام لم أكن طويل القامة كالآن لألتحق بأي نفس أوكسجين. كنت على الارتفاع الكافي لتسيطر رائحة أباطهم المتفسخة على أنفي بشكل جهنمي. لكن رائحة السكارى كانت أكثر عفونة بحق. كل الحضور كانوا يصرخون ويتحدثون بلا انقطاع في لاشيء وعن لاشيء. هذا حال السكارى لا يستطيعون التحدث بهدوء ولا إدراك مايحدث حولهم إلا النساء. بيتر انزوى في إحدى الغرف مع الفتاة الغيفارية!. لم يعلم أن أنجلينا كانت تبحث عنه ليساعدها في الدوران بقبعة جمع التبرعات. كانت تحلم أن توفر لها هذه التبرعات مايكفي لتقيم أسبوعين في “سان سلفادور”. سألتني عن بيتر، فكرت أن أختار الجهل. لكني كنتُ في مزاج سيء لأخبرها بسرعة البرق أنه صعد إلى الدور العلوي بصحبة كمبرلي. كنت أتظاهر بالغباء وقتها وأخفي ابتسامتي الخبيثة، فأنا أستطيع أن أكون خبيثاً عندما أريد، وهذا لا يحدث كثيراً!
كان بيتر يحتضن الفتاة في غرفة النوم وربما كان في الطريق إلى مزاحمة الشمس في تقبيلها. ركضت أنجلينا إليهما كالمجنونة. وقتها كنت أحاول القيام بصداقات جديدة مع بعض المدعوين وتوسيع دائرة المعارف الخاصة بي. صراخهم أصمت الموسيقى وأيقظ الحاضرين من أحاديثهم السخيفة. جميعا صرنا نردد بصوت واحد “قيرلز فايت.. قيرلز فايت”.. إنه حدث مغر جداً. مشهد امرأتين تتقاتلان. حاول الجميع التفرقة بينهما لكن بلا جدوى. بيتر حاول أيضاً على استحياء. طوقت يداي على كمبرلي وأخرجتها من الغرفة إلى غرفة أخرى. كان الوضع مأساوياً، كل النساء ألقين نظرة تقزز على بيتر و”كيم” ووقفوا مع أنجلينا مضيفتنا الكريمة وهي تصرخ “كيف تخون القضية؟!”
أحببت الانتقالين مرة في صورته الخيالية لما طرحت عليك السؤال والثانية لما حسبت نفسكَ خبيثاً ، … هذا عدا السرد المتماسك .
ايمان
هو هو وليس انا ، فيه بعض مني لكنه ليس انا
بصرف النظر عن الحق السياسي الضائع من تلك الحفلة ، والتجاوزات الكبيرة في ساحتها
فإن المسؤولية تُعطى لشخص دون شراكة فيها …
مدهش يا ياسر،
أضعنا كل شيء ياانام ، ليس القضية فقط .. كلنا مسؤولون
أنا أنا , لست هي .
أشعار
لا تعلمين كم اتطلع لزيارتك هنا ،