– تعرفتُ إلى طعم السجائر في صباحات الوحدة. سجائرهُ التي ينفثها في وجهي كلما فتحتُ فمي للحديث. سجائر إنتظار الأماني التي لا تتحقق. أماني الضعفاء. مزاجه السودادي لا يمكن أن ينتهي، الرجل الذي يشاطرني الفراش و أيامي. يا الله كيف أحتمل هذا؟ تعرفين ذلك يا ” نورة” أخبرتكُ هذا، أنتِ صديقة طيبة، رباه أنا تغيرتْ وأصبحت بليدة أكثر؛ و هو لم يتغير.
كانت تبكي في المرات السابقة، تبكي الحظ الرديء و تنوح الحياة. الدمع الحارق، رائحة الدم الحارة العالقة في أنفها من لكماته. هذه كلها ؛ حرقة الكدمات و حرارة الدموع و الصراخ و الدم، حيلتها الوحيدة. لكنها أقلعت عن كل هذا الآن. قامت بما تجيده عندما تقضم الكآبة روحها : غرقتْ في تحضير الطعام ، نظفتْ الأواني وكنستْ البيت. هذه المرة أمسكت بسماعة الهاتف وتابعت حديثها لصديقتها نورة.
– ليته يعود يا نورة كما كنا في شهر العسل. أجمل أيامي قضيتها في اسطنبول معه! ماذا أفعل معه يا نوره يخرج دون أن يسمع ما أريد أن قوله. أريد أن أًصرخ في وجهه. أن أضربه بيدي العارتين أو بمنفضة سجائره. كل الذي أريده معرفة ماذا يريد أن يأكل وقت العشاء،؛ هل سيعود الليلة في وقت متأخر أم ماذا؟ ركب سيارته تلحقه أمنيتي الوحيدة أن تدهسه حافلة و يموت. يا الله أنا انسانة سيئة كيف أتمنى الموت لأحدهم . هل سيعاقبني الله على هذا؟. الله لا يحبني يا نورة، تركني ولم يستمع لدعائي. أريده أن يموت و تكون هذه الأمنية السخيفة التي لا أملك غيرها، آه من الأماني التي يمنعها الغرور من التحقق.
كانت تتكلم بسرعة، بدفعة واحدة، بنفس واحد كأن أحداً يراقبها. تتكلم في سباق مع الوقت قبل أن يعود للبيت و ينعقد لسانها. كانت تتكلم لتتخلص من ألم لا تستطيع أن تتحمله أكثر. كل ما كان يحركها هو أن تتخلص من هذه الغيمة الجاثمة على روحها و التي تقتلها ببطئ. الموت يغازلها من بعيد، بأبشع الصور التي يمكن أن تتخيل، الموت بئساً. “هذا أنا و سأكون بقربك دائماً” الكآبة تهمس في أذنها. هذا ما كان يمثله هذا الرجل الذي يحتضنها كل غروب ويتركها للبكاء حين تشرق الشمس.كانت “سامية” تتكلم وتمسح دموعها، هي الفتاة التي تمضي إلى الحياة مثل من يمضي إلى المنفى بلا رغبة، و لا شغف. لم تُقبل على الحياة أبداًً – على الأقل خلال الأشهر الأخيرة من زواجها. كانت تحاول الهرب من كل شيء، و كل محاولاتها البائسة لتخلق بيتاً جميلاً تتراقص فيه الفراشات و الأحلام الوردية الساذجة لتملأ كل ما يحيطها سعادة و فرح، بقت أحلاماً مستحيلة المنال.
وجهها الطفولي أصبح أكثر حدة و بلوغاً، عيناها الواسعتان أصبحت بلا عمق و حياة. العينان نافذة للروح و “سامية” لم يتبقَ من روحها الكثير مما يمكن أن تقرأه. تقاسيم وجهها صارتْ جالية وأكثر حزناً في ستة أشهر، هكذا كانت تفكر صديقتها “نورة” وهي تستمع إليها في خشوع الراهبات كأنها تتلقى إعترافاً.
هذا ما تحولت إليه حياتها، يضربها “صالح” و يخرج من البيت وهي ترتمي على الأريكة و تبكي، تبكي أشد من الأطفال الثكالى. بحرقة و لوعة وتصرخ ثم تجفف دموعها وتطلب من نورة أن تأتيها.
– تعالي قبل أن أذبح نفسي !
رمت الجملة في أذن نورة عبر الهاتف دون أن تترك مجالاً للرفض. نورة صديقتها منذ الطفولة، صداقتهما تعود الى الصفوف الأولى من المدرسة الأبتدائية. كانتا يصففن شعرهن بربطة ذيل الفرس، للأعلى من دون خصلات تتساقط على عينيهما. صديقتها المقربة و ربما الوحيدة. صديقاتها الكثيرات هربوا من حزنها وهربت هي من نظرة الشفقة في عينيهنّ إلا نورة المخلصة. تسكن في نفس الشارع. بيتها الثالث من الشمال. مكون من طابقين، تزوجت من رجل ثلاثيني زواج تقليدي كما هي العادة. رُزقت منه بطفل صغير يشبه أباه كثيراً أسموه “عبدالله”. تعتقد أنها تعيش حياة سعيدة، حياة سعيدة فعلاً عندما تضعها في الميزان مع حياة صديقتها سامية.
إرتدت عبائتها وحملت طفلها الرضيع، عبرت الشارع وهي تفكر كثيراً في هذه المسكينة التي تقاسي المر والكآبة كل يوم. فكرت لو أنه يمكن أن تغير القدر وتجعل كل النساء والأطفال المساكين سعداء وتنتقم من أمثال صالح.
سامية تعيش في شقة في الطابق الثاني، مكونة من ثلاث غرف وصالة لإستقبال الضيوف، طرقت عليها الباب واستقبلتها بالأحضان.
سامية – أنا آسفة أنني جعلتك تأتين بطفلك المسكين تحت حرارة هذه الشمس.
نورة – لا عليك يا صديقتي.
ردت عليها نورة وأطرقتا في صمت. صمت المحبطين، الساقطين نحو الهاوية في الثواني الأخيرة، صمت المسلّمين أمرهم للقدر والذين لا يعرفون كيف يقذفوا بالحقيقة من أفواهم.
سامية – أعرف أنك تكرهين الإستماع لي، تصغين لي وأنتِ كارهه. ماذا أفعل يا حبيبتي يا نورة، ليس لدي أحد ينتشلني من هذا الجحيم. أخاف أن أخبر أخي “علي” تعرفين أنه مجنون ويمكن أن يحيل هذه الأرض جحيماً لا يرحم، ربما أنه يضرب صالح و يمسح به هذا الغرفة ثم ماذا؟ ماذا يانورة؟ لا أريده أن يضربه، إنني أحبه يا نورة. لم يكن هكذا أبداً. هناك شيء حدث له في الأشهر الماضية. كان يقبلني كل ساعة، لم يكن يكتفي بالقبل والكلام المعسول. كان يحتضني حين يدخل البيت. لكنه تغير بعد أن خسر أمواله في بورصة الأسهم. صار يضربني ولا يحتمل كلامي.
كانت تتحدث وتمشي في صالون الضيافة، تدور في حلقات كأن الكلام هو ما يدفعها للحركة. نورة كانت تصغي لها في امتعاض. لا أحد لديه القدرة على الاستماع الى هذا الوجع و يتمالك أعصابه.
سامية – حين أصبح مزاجه أكثر سوداوية وبدأ يضربني. صفعني أول مره ثم خرج من البيت. عاد في وقت متأخر وبكى عند قدمي وغفرت له. لكن في الاسابيع اللاحقة عاد إلى ضربي، كان يبحث عن سبب لذلك. أخبرت “علي” أن يتحدث معه لكن هذا لم ينفعني أول مرة. إنتهى الأمر بأن ضربه علي أمام عيني، يا الله يا نورة وقفت بينهم وحميته بجسدي من أخي. لم أستطع رؤيته هكذا، لم يرفع يده على أخي. استقبل ضرباته كأن فيها الخلاص. علي لم يصدقني توقف مندهشاً مما فعلت. ربما أنني أستحق هذا. إنني أحبه وأكرهه في نفس الوقت، لا أدري يا نورة
نورة – ما حدث أمر مؤسف، أتمنى أن تنتهي الأمور على خير، أمر الله وما شاء فعل! لكن ألم تخبريه حتى الآن؟!
سامية – لا !
نورة – يا حبيبتي “سامية”.
هذا أكثر ما تستطيع قوله، أن تركز كل قواها من أجل الكلمات المنتقاة المناسبة. هذا لم يكن أصعب المواقف عليها. أن تنصت في إذعان إلى هذه الحقيقة. أن تستمع إلى كل كلمات الذل و العجز في عينيها و تلمس روحها المنكسرة و لا تستطيع أن تفعل شيء، إلا أن تقترب منها بحنان الأمهات و تفرط في إختيار الجمل القصيرة المخففة للألم في صدرها.
سامية – يالسخفي، لم أقدم لك القهوة حتى الآن.
قالت هذا ووقفت على أصابع قدميها. كأنها تفيق من غيبوبة، أو لحظة سرحان طويلة وتستدرك الثواني لتصصح الموقف. كان إنتباهاً مخجلاً. ركضت للمطبخ، وعادت بسرعة تحمل صينية فيها القهوة و التمر.
– تقهوي
ارتشفتا القهوة على عجل كأن القهوة هي الخلاص من المأساة. كأنها الدواء الذي يخفف الألم و يسارع بالشفاء. لم يكن لديهما أي شيء تحكيان عنه إلا هذه الحياة البائسة.
سامية – أنا وحيدة هنا يا نورة .. لا يستمع إليّ، لم أجده أبداً بجانبي. كل ما أتمناه هو أن أرتمي بين ذراعيه وأنام. حتى هذا لا يتحقق.
تابعت حديثها على مضض. هذا ليس أسوء ما يحدث، الشهر الفائت شج رأسي بصحن الطعام، لأني نسيت الملح. رماني بالصحن ورفسني في بطني. كله من أجل الملح وعندما رأى الدم يسيل من جبهتي قال بكل بوقاحة ” هذا وسمي في وجهك، للأبد”. ما الذي فعلته لك يا حبيبي لتكون وحشاً هكذا.
واحتضنتْ نورة وبكتْ في حرقة. بكتْ كأن الموت قادم إليها وتريد الحياة أكثر.
سامية – أتذكره، أتذكر يوم الجمعة حين ناداني والدي يوم جمعة. كنتُ أسمع ضوضاء من مجلس الرجال في الليلة السابقة. أخي “علي” كان صوته غاضباً. إخوتي الباقين كانوا صامتين، وحديثاًً منفعلاً كان بين “علي” و أبي. … لم أستطع أن أسترق السمع حينها. كل ما فهمته أن “علي” غادر البيت مسرعاً دون أن يودعنا أنا وأمي على عادته. كل مرة كان يقبل رأسي و ويقرص وجنتي كأنني طفلة.. …. غادر تلك الليلة ولم أفهم مما حدث شيء لكن في الصباح التالي أبي كان يناديني. في صبيحة شمس جمعة حارة .. “سامية يا بنيتي تعالي” ، “جيبي القهوة وتعالي أبيك”. أخذ يتحدث مطولاً عن أنني أصبحت امرأة الآن و كل شباب أقاربنا أبدو رغبتهم بالتقدم لي. وأنه أختار أفضلهم!
كانت تعيد عليها الأحداث التي تعرفها جيداً، الله و نورة وحدهما يعرفان ماذا يحدث في هذا البيت بكل تفاصيله المهينة.
سامية – “هذه السنة الثانية، الأسبوع الماضي كانت ذكرى زواجنا الأولى و إحتفل فيها بلعني و لطمي بلسانه القذر. يا الله أكره هذه العيشة المتعبة. كلماته تُهشم روحي وتسحق أي أثر بعيد فيها للسعادة. تعلمتُ ألا أصغي إليه عندما يحتقن وجه ويندفع الدم إلى رأسه. صرت أهرب إلى أقصى الأماكن عنه. إلى شوارع اسطنبول. أتمشى قرب البحيرات و أقضي يومي كله هناك. أحرك قدماي في الماء وأستلقي على العشب الأخضر. صرت أهرب ولا أعود إلا عندما يخرج من الباب معه أمنيتي إياها بالموت دهساً “.
نورة – ماذا عن اللي في بطنك!
سجل إعجابي بماتكتبة وتطرحة لله درك ياياســـــــــر
شكرا يا وردة
جميلة جدا ومؤثرة ، من أجمل ما كتبت يا صاحبي . . .
أتعجب من اللي ما يخافوا ربهم في نسائهم ،، من آخر ما أوصى عليه الرسول صلوات الله وسلامه عليه قبل موته النساء عندما قال لأصحابه: “رفقاً بالقوارير”
آذهلتني وربي لم اتوقع كل هذآ ي يآسر
كلما تصفحت في مدونتك ازداد ذهولآ مما تقدمه ..
واشكر ربي على الصدفه التي جعلتني اعرف مدونتك الرائعـه .
رآئع و مبـدع
لم تعد تدخل المكان الذي رايتك فيه .؟ وآجمل ما في المكان انه عرفني بك و في مدونتك الرائعه ..
بسكات
ممتن لك.
اي مكان جمعنا ياصاحب