درب سهيل

Image

إنها الحكاية. ألا تعرف طريقاً سالكاً للسعادة، ألا تعرف كيف تكون سعيداً مجدداً. تتعاقب الأيام وتتغير الفصول وأنتَ لم تعد أنت. يودعك الصيف وأنت تحصي بلاطات السيراميك؛ واحدة واحدة، وحبات العرق؛ حبة حبة، وسط حر أغسطس الشديد. لا فرح تثق به لتركض نحوه مبتسماً. ولا ليلاً تنتظر فيه نجماً مثل “سهيل” وأحاديث كبار السن عنه:

-“إذا جاء سهيل لا تأمن السيل.”

تحفر في ذكريات الطفولة باحثاً عن ابتسامة يتيمة تلتقطها. تعود بها إلى شفتيك. تنحت في ملامح وجهك ابتسامة من الذاكرة. ابتسامة طفل لا يعبأ بهموم الحياة. لم يخطفه صخب المدينة ورتابة الحياة من حضن البراءة وثدي اللعب.

تستلقي على ظهرك، وتعود إلى أرض الطفولة. إلى الحركة الدائمة تحت الشمس. إلى لحظات الفرح بقطع الشكولاتة والحلوى. إلى المشي فوق كثبان الرمال، والسباحة في برك المياه والتقاذف بالطحالب الخضراء، ومطاردة الكلاب والقطط. وإلى الحُمرة التي تعتلي وجهك عندما تقع عليك أعين فتيات القرية.

الطفولة هي أربعة أولاد متفاوتي الأعمار، متفاوتي البُنية الجسدية، أربعة إخوة يتشاركون غرفة واحدة، قطعة خبز واحدة، جبنة واحدة، ولعبة واحدة. و يبكون بصوت واحد عندما يرفض والدهم أن يجلسوا في حوض “البيك آب” بعد صلاة العصر ساعة الذهاب إلى المزرعة، إلى الأرض البعيدة!

-“أخشى عليكم السقوط”. يرد عليهم بشفقة الآباء ورحمتهم. وهم يصرخون بصوت واحد:

-“لكننا نريد رؤية مواقع المطر”

وينتهي بهم الحال في المقعد الخلفي، يتصارعون على رؤية الأرض المغسولة بالمطر من خلف النافذة وأبوهم يُذكرهم:

-“هذه أمطار سهيل، انتظروا أمطار الوسم ففيها كل خير!”

الطفولة هي الساعات القليلة من آخر النهار؛ هي الساعات التي تقضيها مبتسماً. يكون عمرك بقدر ابتسامتك وتكون ابتسامتك بقدر طفولتك. الشوق الذي يغلبك للأرض الصفراء المكسوة ب”الإقحوان” و “البسباس” في أوقات الربيع. إلى بركة الماء الكبيرة في الصيف، نحو الأرض التي بللتها أمطار سهيل في فصل الخريف. وإلى الاحتطاب في الشتاء. إلى أن تركض بين الأشجار وحيداً. تُسمي الأشجار بأسمائها. تعانقها شجرة، شجرة. هنا شجرة السدر وهناك أشجار الليمون وتلك التين وخلفها أشجار الرمان والترنج. تبحث عن غصنٍ مستقيم، غصن قوي تزيل الأوراق عنه، تقطعه بسكين الجيب التي تخفيها عن والديك وتركض إلى آخر البستان؛ نحو أشجار الأثل الطويلة. تحاول تسلق أكبرها وتخشى الارتطام بالأرض. هذا الخوف الذي يلاحقك حتى الآن، أن تقع من أعلى وتموت. تعرف أن خلف الأثل تراب لم تلامسه قدميك، صخور لم ترميها في بركة الماء، و زهور بألوان جديدة لم تعبث بها وطيور بأشكال مختلفة لم تتعرف عليها مثل الهدهد الجميل الذي نهرك أباك عن اللحاق به واصطياده.

هذا هدهد سليمان، أخبرك أبوك. له ألوان غريبة، ألوان تليق بالملوك والصالحين. أربعة ألوان من عناصر الطبيعة، الضوء والظلمة، تربة الأرض وسحاب السماء! إنه هدهد سليمان الذي يدلك مكان الماء في أعماق الأرض. يخبرك عن المجهول، عن أرض سبأ وجنانها وأهلها. إنه هدهد سليمان الذي سيخبرك عن مكان الملكة التي تمشي على الزجاج وترفع طرف فستانها عن مواقع الماء كحمامة برية! الحمامة ذاتها التي تشاهدها بين أغصان الأثلة، وتجعلك تقف مكانك وتلزم الصمت. تخرج “النبيطة” التي تتفاخر بها أمام أطفال قريتك “صنعها لي أخي الكبير من سيخ حديد صلب!” وَ “برمية واحدة أُسقط حمامة برية كبيرة” وَ “يوماً ما أسقط بها هُدهداً”.

تلتقط حجراً صغيراً، تُمسك مقبض النبيطة بعيداً عن جسدك الصغير. وبيدك الآخرى تمسك بكل قوتك الحجر الملموم في قطعة الجلد المستطيلة والمتصلة بحلقات المطاط، تشدها إليك وتحبس أنفاسك وتنتظر الفرصة المناسبة لتسقط الحمامة من فوق الأثلة. “بسم الله والله أكبر” كما علمك أبوك. تتألم لمُصاب الحمامة وإرتطامها في الأرض، تمسكها بيديك وتركض بها إلى أمك. “أمي هذا عشاءنا الليلة”.

إنها الحكاية، أن تقاتل من أجل ابتسامة أصيلة محفوظة في ذاكرتك، أن تضيع في داخلك منابع الفرح، وتضيع أنتَ في لقمة العيش والكد والعمل. هي الحكاية أن تعود إلى لحظة طفولة قديمة. تعود إلى ابتسامتك يوم حملتَ حمامةً برية بين يديك. تسافر إلى ذات “سهيل”، وأمك تطيل النظر في وجهك وتقول:

– “أصبحت رجل الآن”.

3 الردود to “درب سهيل”


  1. 1 ola 2 أكتوبر 2012 عند 07:15

    يا الله .. كم احب كمية الصدق و المشاعر التي تبثها كلماتك .. حفظك الله من كل شر و ادامك مبدعا نفتخر به .
    جعلتني أشتهي ذلك المطر 🙂

  2. 3 ياسر 3 أكتوبر 2012 عند 12:35

    شكرا يا عُلا..


اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s




تغريدة تويتر

رميتُ في الذاكرة

Blog Stats

  • 59٬115 hits

%d مدونون معجبون بهذه: