“ كان جيم الرقيق يركض نحو المدينة إلى مكتب سيده توماس جيفرسون، يركض بكل قوة يمكن أن يتحملها جسده النحيل. فتح باب المكتب وهو يصرخ “سيدي سيدي سيدي“. إنتبه له سيده توماس وأغلق الكتاب الذي يقرأه وقال:” ماذا تريد يا جيم“. أجابه بصوت مبحوح:” البيت إحترق ياسيدي“. توماس أصابه الذعر وإحمر وجه بسرعة: “ ماذا عن كتبي؟“!!
في الأيام اللاحقة قام السيد توماس جيفرسون بمخاطبة دور النشر في قارة أوروبا ليمدوه بالكتب التي إحترقت ويدفع الغالي والرخيص من أجل الحصول عليها وفي مقدمتها أول ترجمة للقرآن الكريم!
يخبرنا التاريخ أن السيد توماس جيفرسون أعاد بناء مكتبته في عشرين سنة ليتبرع بها للحكومة الأمريكية لتصبح فيما بعد مكتبة الكونجرس، المكتبة الأعظم في تاريخ البشرية حتى هذه اللحظة.
أعتقد أنه وقت ظهيرة في يوم خميس صائف بالتحديد. أتذكر أن طعام الغداء كان جاهزاً ونحن بإنتظار عودة أبي من مدينة عنيزة بمنطقة القصيم التي يربط القرية بها طريق واحد وتبعد مسافة ساعة بالسيارة إن كنتم مهتمين بتفاصيل أكثر عنها. ولا حاجة لي لأسترجع هذا الآن لأنها مازالت المدينة الأقرب لنا والمكان الوحيد للتسوق لجميع حاجيات الأسرة والملتزمات الزراعية التي تحتاجها عائلة تمتهن الزراعة لكسب العيش. كنت طفلا كما يمكن أن تصنفوني وفي أولى خطواتي نحو أرض الرجال كما أريد أن أراها<span style=”font-family:Traditional
Arabic;”>.
والدي كان في رحلة من أجل شراء آلة حصد جديدة لمحصول البرسيم، ربما أنه البرسيم أو غيره. كنت في الحادية عشر من عمري وقتها. لم يكن هناك إلتزام بموعد أكل الطعام عندما يكون أبي في مشوار بعيد. لكنني ابن أبي ولم أمدُ يدي للطعام أبداً وأنا أعلم أنه في طريقه للعودة للبيت وهو لم يكن يمانع هذا أبداً، أعني أن نأكل قبل عودته. لدينا مواعيد محددة للطعام في المنزل لا نحيد عنها أبداً. طعام الإفطار
يكون بعد صلاة الفجر بساعة واحدة تماماً، والغداء والعشاء بعد إنتهاء الصلاة مباشرة. هذا الشيء لا يمكن أن يتغير أبداً. وأجدني ملتزما به بشكل غير إرادي حتى هذا الوقت. أتذكر أن غداء يوم الخميس كان دجاج محمر بالفرن ورز وسلة فواكة، طعام الغداء لايتغير أبداً في فصل الصيف. يومٌ لحم ويومٌ دجاج أما رز “بسمتي” فهذا يبقى ثابتاً كموعد طعام الغداء مع لبن النعاج وسلة الفواكة. الرز للمعدة النجدية مثل الوضوء للصلاة، لا قبول للأخيرة إلا بالأولى. لا أدري من سن هذه السُنة، أمي أم أبي، إن أردتم الحقيقة.
والدي شخصية قليلة الكلام، كتوم بطبعه، لا يحبذ الكلام فيما هو غير ضروري، وقليل الإبتسام. لا أدري عن الصفة الأخيرة إن كانت جيدة لكنها تضفي على شخصيته الكثير من الهبة والإحترام. ملامح وجهه لا تتغير أبداً. لمن لا يعرفه عن قرب، لا يمكن التنبوء بمزاجه من تفاصيله. لكن لا تأخذكم أفكار كثيرة، والدي يحب المزاح كثيراً عندما يكون في مزاج يسمح له. لكنه في تلك الظهيرة كان منزعجاً بشكل كبير. وعندما تكلم، صب كمية من الشتائم لابأس بها على رأس مكتبة عنيزة الوطنية!
أحببت القراءة والكتب من والدي، وكان يوم الخميس هذا هو المرة الأولى التي أتسائل لماذا يغضب الإنسان من مبنى كبير يحمل أمهات الكتب. وقتها عرفت أن أبي إعتاد أن يستعير كتاباً كل اسبوعين من مكتبة عنيزة الوطنية. ويخصص له وقته بعد طعام العشاء حتى الساعة العاشرة ليلاً او الحادية عشر في قراءته. كتاب عن تاريخ شبه الجزيرة العربية و رفضت المكتبة إعارته الكتاب إلا برهن بطاقة الأحوال الشخصية مكانه حسب نظام جديد أصدروه وقتها في أوائل التسعينات الميلادية. كان أبي غاضب بشكل لم أعرفه وقتها.
منذ تلك اللحظة بالتحديد ابتدأت رحلتي مع الكتاب وعلاقة خاصة مع والدي. كنت أستيقظ صباحاً وأنتظر وقت وجبة العشاء لأجلس وأقراء كتاباً كما يفعل والدي في صالون الرجال – كلما عدت إلى القرية ، صالون الرجال هو صومعتي– كانت لدينا مكتبة متواضعة جداً، يغلبها الطابع الديني. قرأت فيها البداية والنهاية وزاد المعاد وتفسير ابن كثير وبلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب وشاكلتها. وعندما انتسبت لجامعة الملك فهد بن عبدالعزيز في عام 2001 تعرفت لكتب الجابري وعالم الروايات وكتب الإدارة وكل مايتوق إليه شاب يعشق القراءة. كانت أياماً جميلة وأصبحت لدي عادة بأن أهدي والدي كتاباً كل شهر. محاولاتي الأولى كانت فاشلة ثم بعدها في حديث مقتضب بيننا عن التاريخ أخبرني أن التاريخ الحقيقي يكون في كتب السيرة الذاتية. مقولة قرأتها بعد هذا لأحد الكتاب الغربيين ولا يحضرني الإسم الآن.
إنني ممتن لهذا الخميس، ولكل الليالي التي قضيتها مع والدي في قراءة أمهات الكتب. إنني أتذكر هذه الحادثة الآن وأنا على وشك العودة إلى أرض الوطن بعد غربة إستمرت 4 سنوات. السنتان الأخيرتان لم أتمكن من العودة للوطن فيها. أقول أنني أتذكر هذا الحدث لأنني لا أدري كيف أتعامل مع مكتبتي الصغيرة هنا. لا أستطيع التفكير بأي شيء آخر الآن إلا هذه الكتب. أكثر من 200 كتاب في الفلسفة والتاريخ والأدب والسير الذاتية تمنعني التكلفة العالية جداً من حملها معي إلى المملكة. ويمنعني خوفي الأكثر عليها من سلطة الرقابة والأخطاء البشرية أن تضيع ولا تعود إلي. إنها مكتبة حرصت فيها على إقتناء أهم الكتب والأعمال التي أحتاجها في رحلتي الفكرية والعلمية وربما الترفيهية. من الموسوعة الفلسفية لـ الدكتور عبدالرحمن بدوي إلى الكوميديا الإلهية لـ دانتي. ولن تصدقوني إن أخبرتكم أنني أقضي جل وقتي هذه الأيام في التنقل بين هذه الكتب وإعادة قراءتها.
ربما أنني سأتبرع بالكتب العربية لأحد المطاعم العربية التي إعتدت إرتيادها. فكرت أن أهديها للمسجد لكن بعضها ملوث بالحديث عما لا يقبله بشر. ربما أنني سأضعها في مقهى بيروت في مدينة آرنلقتون –ولاية تكساس– وأبيع الكتب الإنجليزية. وغداً، غداً عندما أعود لأرض الوطن أعيد بناء مكتبتي كما فعل تومس جيفرسون.